هل تشير بعض الأحاديث إلى أن الأرض مسطحة؟
دراسة شاملة ونقاش علمي وديني
مقدمة
تُعَدّ قضية شكل الأرض من المواضيع التي أثارت جدلًا عبر العصور. فبينما أجمعت الاكتشافات الحديثة والعلوم الفلكية على كروية الأرض، يتمسك بعض الباحثين بنصوص دينية وتاريخية يُفهم منها أن الأرض مسطحة. في هذا المقال، سنستعرض الأحاديث التي يعتقد البعض أنها تدل على سطحية الأرض، ونناقشها علميًا وفقهيًا، كما سنعرض حجج القائلين بأن الأرض مسطحة وتحليلها من منظور إسلامي وعلمي.
أولًا: الروايات التي يُستدل بها على سطحية الأرض
1- حديث ذو القرنين والجبل المحيط بالدنيا
يستدل بعض القائلين بسطحية الأرض برواية تقول إن ذا القرنين وصل إلى جبل "قاف" الذي يحيط بالأرض، وله عروق تتحكم في حركتها.
النص المروي:
جاء ذو القرنين إلى الجبل المحيط بالدنيا وهو قاف، فقال: أنت قاف؟ قال: نعم، قال: فما هذه الجبال الراسيات؟ قال: هذه من عروقي، فإذا أراد الله -عز وجل- أن يزلزل بالأرض أوحى إلي فحركت عرقًا من عروقي.
تحليل الحديث:
- يرى من يؤمنون بسطحية الأرض أن الجبل المحيط يوحي بأن الأرض ليست كرة في الفضاء، بل هي أشبه بقرص محاط بحواف.
- يردّ العلماء بأن هذه الروايات ليست من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ﷺ، بل قد تكون مستمدة من الإسرائيليات والموروثات الثقافية.
2- الجبل المحيط في رواية ابن عباس
يروي ابن عباس أن الأرض تستند على صخرة، وتحاط بجبل "قاف"، مما يراه البعض دليلًا على أنها مسطحة.
النص المروي:
خلق الله -عز وجل- جبلًا يقال له: قاف محيط بالأرض، وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل، فيحرك الذي يلي تلك القرية فيزلزلها.
تحليل الحديث:
- يؤكد أنصار نظرية الأرض المسطحة أن هذه النصوص تصف نموذجًا يشبه الخريطة القديمة للأرض المسطحة، والتي تكون محاطة بحواف أو حاجز.
- من ناحية أخرى، فإن العلماء والمفسرين يرون أن هذه النصوص غير صحيحة من الناحية الحديثية، وأنها لا تُقدِّم دليلًا قطعيًا على شكل الأرض.
ثانيًا: آراء القائلين بسطحية الأرض ونقاشها
1- الاستدلال بالقرآن الكريم
يستشهد بعض من يؤمنون بسطحية الأرض بآيات مثل:
- ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ (الحجر: 19)
- ﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ (الغاشية: 20)
تحليل الآيات:
- يرى القائلون بسطحية الأرض أن كلمة "مددناها" تدل على الامتداد المستوي وليس الشكل الكروي.
- أما العلماء فيوضحون أن هذه الآيات تتحدث عن تجربة الإنسان على سطح الأرض، وليس عن شكلها الحقيقي في الكون، فحتى على الكرة الأرضية، فإن أي نقطة تبدو مسطحة للناظر من قرب.
2- غياب الانحناء المرئي للأرض
- يقول أصحاب نظرية الأرض المسطحة إنه لا يوجد دليل مرئي لانحناء الأرض، فلو كانت كروية، لكان يجب رؤية تقوس الأفق بوضوح.
- يرد علماء الفلك بأن السبب في ذلك هو حجم الأرض الضخم، ما يجعل الانحناء غير ملحوظ للعين المجردة، لكنه يُثبت بالتصوير من ارتفاعات عالية.
3- التجارب البصرية والنظرية الأفقية
- يشير البعض إلى أن ناطحات السحاب يمكن رؤيتها من مسافات بعيدة دون أن تختفي خلف انحناء، ما يدل على سطحية الأرض.
- يفسر العلماء هذا بأنه يرجع إلى ظاهرة الانكسار الضوئي، حيث يمكن للضوء أن ينحني عبر الغلاف الجوي، مما يجعل الأجسام البعيدة تبدو مرئية لفترة أطول.
ثالثًا: الأدلة العلمية على كروية الأرض
1- صور الأرض من الفضاء
- التقطت وكالة "ناسا" وشركات الفضاء صورًا عديدة تثبت كروية الأرض، وهو ما يتناقض مع فكرة الأرض المسطحة.
- يرد المشككون بأن هذه الصور مفبركة أو معدلة رقميًا.
2- حركة النجوم والطائرات
- في نصف الكرة الشمالي، تظهر النجوم بشكل مختلف عن نصف الكرة الجنوبي، وهو ما يفسره العلماء بكروية الأرض.
- الطائرات التي تسافر بين القارات تثبت كروية الأرض من خلال المسارات التي تتخذها.
رابعًا: رأي العلماء المسلمين حول شكل الأرض
1- العلماء الذين قالوا بكروية الأرض
- ابن حزم الأندلسي قال: "لا خلاف بين العلماء في أن الأرض كروية الشكل".
- ابن تيمية أشار إلى أن الأرض كروية، لكن الناس على سطحها لا يشعرون بذلك.
2- موقف علماء الإسلام من الأدلة الحديثة
- معظم الفقهاء والعلماء يقرّون بأن العلم الحديث يثبت كروية الأرض بالدليل القاطع، وأنه لا تعارض بين الدين والعلم.
- يرون أن بعض الروايات القديمة كانت تعبر عن الفهم السائد آنذاك، لكنها ليست نصوصًا قطعية الدلالة على سطحية الأرض.
خاتمة: كيف نتعامل مع النصوص الدينية والعلم الحديث؟
1- فهم النصوص في سياقها
- بعض الروايات قد تكون رمزية وليست حرفية.
- لا يوجد في القرآن نص قاطع يجزم بسطحية الأرض أو كرويتها.
2- التوفيق بين العلم والدين
- الإسلام يشجع على البحث والتفكر، والعلم الحديث أثبت كروية الأرض بشكل قاطع.
- لا يجب رفض الحقائق العلمية بسبب تفسير معين لبعض النصوص.
3- التمسك بالمنهج العلمي
- الإسلام لا يعارض العلم، بل يحث على طلب المعرفة.
- يجب عدم الاعتماد على روايات ضعيفة أو غير مثبتة علميًا في مسائل كونية.
إن مسألة شكل الأرض ليست مجرد قضية علمية بحتة، بل هي موضوع يدعو إلى التأمل العميق في كل ما تعلّمناه، سواء من المصادر الدينية أو العلمية. وبينما يؤكد العلماء المعاصرون أن الأدلة التجريبية تدعم كروية الأرض، لا يزال هناك من يرى أن بعض النصوص والتجارب الحسية قد تعطي تصورًا مختلفًا. لذا، فإن البحث في هذه المسألة يجب أن يكون منطلقًا من عقلية منفتحة تستند إلى الأدلة القاطعة والتفكير النقدي، دون التمسك الأعمى بالموروثات أو رفض الحقائق العلمية دون تمحيص. إن الإسلام يشجعنا على التفكر والتدبر في خلق الله، فلا ضرر في التساؤل وإعادة النظر في أي معلومة، ما دمنا نبحث عن الحقيقة بروح علمية وبنية صادقة للوصول إلى الفهم الصحيح.